يوم آخر شاق في عمل لا يستسيغه، ينتهي وتبدأ معه سكة سفر مرهقة أخرى في ليلة معتمة أخرى تتخللها رياح الشتاء الغاضبة و البرودة القارسة و على ما يبدو بعض كائنات الظلام الموحشة. أحس بوجود ظل ما يتبعه، شابين أثاروا فيه الاحساس بالريبة وأطلقوا عنده أجهزة الإنذار الداخلية محذرة بخطر قائم مع دفقة دفاعية احترازية من الأدرينالين عكست توجسه عند رؤيته لملامحهم المسعورة التي لا توحي بخير، خاصة في ذلك الوقت المتأخر و في ذلك الشارع التي هجرته الحياه و نامت أعمدة نوره مبكرا إلا عمود واحد على بعد عدة أمتار بدأت تبدو عليه آثار المعاناة من الأرق فيظل يشدو وحيدا بضوء خافت و لكن كاف لإيضاح معالم الشارع فيشكو إلى المارة شدة الإهمال و يناجي نفسه سوء الأحوال. يهتز نوره فتهتز معه دقات القلب المتوجس و تهتز سكنات الجسد المتأهب.
"معاكش اتنين جنيه والنبي يا برنز عشان ساكنين بعيد ومعاناش حق الميكروباز؟" تلك هي الدخلة الكلاسيكية المنذرة بالمتاعب، فما كان منه إلا أنه لم يستجب و شرع في فتح الخطى عسى أن تكون ظنونه في غير محلها. ولكن ثبتت صحة ظنونه فتحرك الشابان خلفه بسرعة في تشكيلة كسرب من الطائرات المعادية المهاجمة للقواعد السالمة، فوقف أحدهما في الأمام بينما الآخر اتخذ موقعه في الخلف و في لحظة انقضت الأيدي و برزت المطواة وانهالت الشتائم ومالت الأجساد ناحية ركن مظلم تماما نأى بنفسه بعيدا عن أي ضوء بدا مثاليا كمصيدة أو كقبر.
غريب أمر ذلك الأدرينالين، من أين أتي بتلك القوة و تلك الجرأة؟! ذلك الفتى النحيل، خائر القوى بعد يوم آخر في مطحنة العمل الخاص، تغتصبه و تمص قواه تلك الآلة الجائرة و تطبق على أنفاسه و أنفاس غيره. يبدو أنها كانت بركة دعاء الوالدين، أو هكذا علق أخوه مشاكسا، شيء من لطف الأقدار و ستر الجبار. لم يشعر بنفسه إلا وقد انتفض في ردة فعل غير متوقعة غير مبال لشفرة المطواة التي شعر ببرودتها تلامس جسده ولا لعرض القوة والترهيب من هؤلاء البلطجية، تلك الفئة الطفيلية التي لم يخف أبدا كرهه لها ولأمثالها. وجد نفسه واقفا تحت عمود النور الوحيد المضيء الشارد الشاهد على كل ما يحدث، يحتمي به و يلوذ بنوره عسي أن تشفع له أشعة نوره الباهت، ينتبس بكلمات لم تسمعها آذانه في ظل الضجيج الصادر من دقات قلبه السريعة، تدق في عنف تكاد تخترق صدره.
لدهشته لم يتبعه أحد بل ظل الجميع لوهلة في سكون عجيب. ربما أذهلتهم تلك المقاومة التي جردتهم من قوتهم المصطنعة، ربما ظنوه ضحية سهلة، ربما أخافهم ظل بعيد لرجلين يتسامران، ربما هم مثلهم مثل تلك الكائنات الليلية الخبيثة يهابون أقل ضوء، يحترقون عند ملامسته لأجسادهم المتعفنة، لا يحتملون اختراقه لأوصالهم الهشة التي أنهكها السير في خطى الشر. فألقي في قلوبهم الرعب و انطلقوا بعيدا، و لم يبق في المشهد إلا هو و عمود النور الوحيد، يؤانس وحدته و يحكي له همه، ثم يتجه بعيدا إلى مكان أكثر إضاءة و أكثر دفء يحمد ربه على سلامته و على فضل نعمه.
لدهشته لم يتبعه أحد بل ظل الجميع لوهلة في سكون عجيب. ربما أذهلتهم تلك المقاومة التي جردتهم من قوتهم المصطنعة، ربما ظنوه ضحية سهلة، ربما أخافهم ظل بعيد لرجلين يتسامران، ربما هم مثلهم مثل تلك الكائنات الليلية الخبيثة يهابون أقل ضوء، يحترقون عند ملامسته لأجسادهم المتعفنة، لا يحتملون اختراقه لأوصالهم الهشة التي أنهكها السير في خطى الشر. فألقي في قلوبهم الرعب و انطلقوا بعيدا، و لم يبق في المشهد إلا هو و عمود النور الوحيد، يؤانس وحدته و يحكي له همه، ثم يتجه بعيدا إلى مكان أكثر إضاءة و أكثر دفء يحمد ربه على سلامته و على فضل نعمه.