Sunday, October 2, 2016

يوم لا يمكن نسيانه

مش عارف ليه انهارده افتكرت يوم 25 يناير 2011. يمكن علشان كنت لسة موجود من شوية في نفس النقطة من ميدان عبد المنعم رياض اللي نزلت فيها يوميها من باص الشركة (اللي كنت بشتغل فيها وقتها) في نفس التوقيت (الساعة 12 أو 12.30 بعد منتصف الليل) بالصدفة البحتة دون أي علم إن البلد بيحصل فيها ثورة أو إن الدنيا مقلوبة هناك أو إن فيه ناس بتموت وناس بيتقبض عليها. يمكن افتكرت اليوم ده والليلة دي بالتحديد علشان كانت من أولها ليلة غريبة. من أول ما سألت مشرف الباصات في المغادرة بعد الشغل على مكان خط التحرير اللي على غير العادة مش شايفه واقف، وهو السؤال اللي قابله مشرف الباصات وعدد من السواقين المتواجدين حواليه بنظرات من التعجب والحيرة والدهشة (وهي النظرات اللي فهمت معناها بعدها بسويعات قليلة). يمكن علشان الباص يوميها (واللي المشرف دبره ودبر سواق "مغامر" له بالعافية) واللي بيتسع ل14 راكب كان على غير العادة موجود جواه 3 ركاب بس أنا واحد منهم. يمكن برضو علشان ليلتها كانت أول مرة أسمع محادثة مكنتش أتخيل إني ممكن أسمعها قدامي كده بين السواق والاتنين الركاب التانيين معايا اللي هما زمايلي في الشغل بس معرفش حد منهم. المحادثة كانت بتدور حوالين الأفراح البلدي وازاي بيبقى فيها خمور ومخدرات وازاي إن السواق بيجهز لفرح ابنه وجاب أد إيه خمرة وأد إيه مخدرات عشان يحيوا الليلة، وازاي إن الفرح البلدي بيبقى الرجالة في حتة والستات في حتة علشان الرجالة بتبقى لمؤاخذة "مونونة" من الهباب اللي بيشربوه وبيضربوه ويمكن يعملوا حاجة غلط معاهم، وازاي إن الاتنين الركاب اللي هما زمايلي في الشغل دول على معرفة كاملة بالموضوع ده وبالمخدرات وأنواعها وأسعارها، وهي المحادثة الشيقة والحميمة واللي انتهت بإن السواق عزمهم على فرح ابنه!
يمكن برضو علشان بمجرد ما وصلنا عبد المنعم رياض ونزلنا من الباص السواق فتح على الرابع وطار (زي ما يكون طيارة هليكوبتر رامية مجموعة قوات خاصة في ميدان الحرب في مهمة انتحارية)، والاتنين اللي كانوا معايا نطوا في أول ميكروباص وطاروا هما كمان! وطبعا كل ده بيحصل وأنا معنديش أي فكرة إيه اللي بيحصل بالضبط، غرقان في دوامة من الاستغراب والأسئلة اللي ملهاش إجابة، أو اللي مكانش ليها إجابة لغاية دقائق قليلة بعدها. 
يمكن علشان بمجرد ما ببص حواليه إذا بي كأني دخلت جوه لعبة من ألعاب الإثارة على الكومبيوتر أو فيلم من أفلام الرعب. المشهد كان سيريالي ومرعب إلى حد كبير: الناس حواليك عينهم محمرة جدا وبتتحرك ببطء وبتجهم كما لو كانوا Zombies أو أموات أحياء، بعدها بدقيقة بالضبط ابتديت آخد بالي من طبقة الدخان الكثيف والخانق اللي بتغطي الجو، وبعدها بدقيقة ابتدت تظهر الأعراض علىّ--رشح وتدميع في العين وصعوبة في التنفس وارتعاش وشعور بالبرودة. وبمجرد ما خطيت خطوتين في وجهتي المعتادة منطلقا ناحية التمثال متوسط الميدان للتوجه بعد كده لميدان التحرير ومنه للبيت، إذا بالحرب تضع أوزارها وتعلو ضجة الصياح وطلقات النار والقنابل المسيلة للدموع والصراخ، فإذا بي أعود مسرعا إلى نقطة الصفر كما كنت، وإذا بي أرى الضحايا المصابة محمولة أمامي بعيدا عن ساحة القتال والدماء تنهمر منها، وإذا بي أتسمر في مكاني دون أية فكرة عن إيه اللي بيحصل أو اتصرف ازاي.
ويمكن برضو علشان يوميها عرفت فعلا معنى من معاني ستر ربنا أو بركة دعاء الوالدين. دخان ودم ونار وظلام وفوضى سائدة على المكان وأنا في وسطها مجرد شخص موجود في المكان الغلط في الوقت الغلط، فكان لازم أحاول أتحرك في أي طريق علشان أطلع من المكان الكارثي ده وأوصل للبيت. ولكن مع كل خطوة ناحية طريق زي ما يكون كان بيطلعلي حد من تحت الأرض يحذرني إني أمشي في الطريق ده: لأ حاسب الطريق ده فيه ضرب نار .. لأ متمشيش من هنا، فيه مخبرين وناس بيقفشوا أي حد ماشي .. لأ خد بالك الطريق ده مسدود.
ويمكن علشان يوميها عرفت معنى إننا مسلم ومسيحي إخوات في وطن واحد. فبعد مناورات وتحذيرات عديدة وقفت بقلة حيلة في وسط جراج سيارات مش عارف أروح فين تاني، وإذ فجأة بتلات ظلال أشوفها بتقرب مني. ساعتها أفكار كتير بتمر في دماغك: هل هي دي النهاية؟ مين دول وجايين ناحيتي ليه؟ هما دول المخبرين وجايين يقبضوا عليّ؟ طيب أجري ولا أعمل إيه؟ طيب وأهلي هشوفهم تاني امتى؟ وبيتي، قد إيه بفتقده وبفتقد دفءه. في النهاية قررت الثبات والمواجهة وزي ما تيجي. ومع كل خطوة منهم ناحيتي كانت أشكالهم بتظهر أكتر وكانت ضربات قلب الواحد تكاد تسببله الصمم. توتر شديد فضل موجود حتى بعد ما عرفت إنهم مجرد تلات أشخاص عاديين كانوا زيي برضو موجودين في المكان الغلط في الوقت الغلط. كانوا شايلين علبة شاشة كومبيوتر فغالبا هما كانوا جايين من مول البستان القريب من ساحة الميدان وإنهم كانوا جايين يهربوا من المكان ده بعربيتهم اللي بالصدفة كانت العربية اللي كنت واقف جنبها. من أسماءهم اللي مش فاكرها ومن الصليب المتعلق في العربية عرفت دينهم المختلف عن ديني، بس من الموقف اللي عملوه بعد كده عرفت إننا ممكن يكون ديننا مختلف بس احنا لسه بني آدم زي بعض تربطنا الإنسانية، العمر واحد والرب واحد والوطن واحد. رموا الشاشة في شنطة العربية وإذا هم بيستعدوا إنهم يمشوا إذا بواحد منهم ألاقيه بيتجه ناحيتي، يبدو عليه نفس التوتر والخوف اللي بادي عليّ، وبيسألني أنا ليه واقف كده وأما عرف إني زيهم عايز بس أوصل للبيت عرض عليّ إنهم يوصلوني بعربيتهم لأي مكان في طريقهم بعيد عن الكابوس ده. ووافقت على الرغم من نظرات متبادلة من الخوف وعدم الثقة: ماهو ممكن يخطفوني في العربية دي .. ما هو ممكن يطلع مسجل ولا مخبر ويعمل فينا حاجة. وبصوت أزيز الفرامل مع البنزين طرنا بعيد وبمجرد ما وصلنا لمنطقة أمان شكرتهم وسبتهم ونزلت وبعدها أول تاكسي وعلى البيت بعيد عن أي أثر للحرب الدايرة في الميدان غير أثر الرعشة والبرودة وصعوبة التنفس الناتجة عن استنشاق كمية مش قليلة من الغاز واللي فضلت معايا لغاية ما غسلها دفء البيت وطمأنينته.
يمكن بعد كل ده عرفت أنا ليه افتكرت اليوم ده بالذات: علشان ببساطة هو يوم ماينفعش يتنسي.

No comments :

Post a Comment