و إذا بي و أنا أهيم من موجة إذاعية لموجة أخرى من خلال الراديو الصغير الكائن على مكتبى، والذي تردمه تلال من التراب من قلة الاستخدام و الاهتمام، إذ تمر على مسامعي نغمات تلك المقطوعة الموسيقية الهادئة. أنا متأكد من سماع تلك النغمات العذبة يوما ما، الأمر الذي تطلب مني التحديق بجهاز الراديو لبعض الوقت و كأنه شخص ما ذو ملامح مألوفة جدا لدي. فما كان مني إلا إنني شعرت بأنني رويدا رويدا لا أشعر بالزمان ولا المكان، و إذا بي وقد تناغمت تماما مع كل نغمة تعزف. يا له من شعور غريب! وكأني أطير على سجادة علاء الدين! و لكن منذ متى تحول ذلك الراديو القديم إلى آلة زمن؟!
المكان نفس المكان لكن الزمان مختلف. قبل قرابة العشرون سنة. عشرون سنة! كم كبرت في السن أيها الفتى الطيب! وأنا من كان يظن نفسه لا يزال شاب صغير؟! نفس النغمات تصاحبني و تؤنس شعوري بالوحدة في هذا العالم و تهون صدمتي بمدى قدم تلك الذكرى. لازلت أتذكرها و أراها أمامي بمنتهى الوضوح. من أجمل أوقات حياتي.
انتهى العام الدراسي و بدأت الأجازة. ولكن الاسيتقاظ المبكر لم ينته. وكيف أفوت تلك اللحظات العبقرية من الاستيقاظ باكر يوم الأجازة و فتح شباك التراس و الاستمتاع بنسمات الهواء الحنونة الهادئة الصافية الممتزجة بالعطر المنعش لزهور الياسمين التي كانت يوما ما بمثابة حديقتنا الخاصة مع تغريدات العصافير التي اتخذت الأشجار القليلة المحيطة سكنا لها. و لكن السبب الرئيسي لتكبدي عناء الاستيقاظ المبكر حينها لم يكن ذلك المشهد الرومانسي، فقد كان كارتون الساعة العاشرة على القناة الثالثة والذي لم أكن أستطع مشاهدته أيام الدراسة هو الهدف الأسمى. فها أنا أفتح التلفاز ثم أتجه للجلوس على الأريكة المقابلة انتظر في لهفة دقات الساعة العاشرة و بدأ البث. و لكنها لا تزال التاسعة و هو ما يعني الانتظار لمدة ساعة كاملة و لكنه لم يكن بالأمر الجلل حيث إن وقت الانتظار كانت تتخلله تلك المقطوعات الهادئة والأنغام الجميلة لقناة المعلومات التي كانت تسبق بداية البث بسويعات قليلة (ذلك أيام التلفاز الأرضي الحكومي ذو التسع قنوات قبل غزو الأقمار الصناعية للفضاء وقبله للعقول!).
موسيقى رائعة، معلومات مفيدة، أخبار الدنيا، هواء منعش، جو صحو، نقاء ذهن و صفاء قلب. هل تحتاج إلى شيء أكثر من ذلك؟ و يمر الوقت و أنا أغوص في بحور المعلومات و أقفز من نغمة لنغمة و أطير من نسمة لنسمة في ظل أريج الياسمين الأخاذ، حتى تأتي تلك المقطوعة، فتعود بي من حيث أتيت، جالسا أمام الراديو في سكون و ربما في ذهول من هول تغيرات الحياة. وعندها تسللت إلي بعض مشاعر الحزن، ولكن كان عزائي الوحيد هو استرجاعي لتلك اللحظات الماضية المفرحة بكل تفاصيلها: ذكرى ظلت وستظل محفورة في الكيان، ومن يدري، فلربما تعود يوما وأعود معها إلى واقع غير الواقع و حياة غير الحياة و عالم غير العالم...
No comments :
Post a Comment