Saturday, April 5, 2014

سائح في بلاد التصوف

     مررت البارحة بتجربة؛ هي ليست بالجديدة بالنسبة لي، حيث إن هذه ليست المرة الأولى التي أذهب بها إلى ذلك المكان أو أرى ما رأيت أو حتى أفعل ما فعلت، ولكنها المرة الأولى التي أرغب حقا في الكتابة عنها لتدوين بعض الملاحظات التي بدت جلية لي ولقليل من المتواجدين بالتأكيد. 
     اليوم كله عمةً مضى على طريق غير مخطط له. فبدأ اليوم باستيقاظي في الصباح الباكر ليوم الجمعة قبل ساعات من التوقيت الذي كنت قد حددته سلفاً على المنبه مساء الليلة الفائتة لذلك اليوم لإيقاظي بوقت كافي قبل الصلاة للإفطار و الاستعداد للذهاب للمسجد الملاصق للبيت تقريبا. وعلى غير المخطط لم أكمل نوم تلك الساعات الباقية و ظللت مستيقظاً، فتمت دعوتي للذهاب إلى ذلك المكان فرفضت اولاً ثم وافقت على الذهاب. وعلى الرغم من أني (كسائر مرشحي الرئاسة في بلدي تلك الأيام) "لم أكن أنتوي" الترشح ... أقصد الذهاب، ولكني وافقت كتغيير للجو و كسر لرتابة الروتين اليومي من عمل معظم الوقت و بقاء في المنزل لبقية الوقت. 
     فتحضرت سريعا للذهاب و ركبت حتى مكان تجمع الباصات السياحية المخصصة لرواد و مريدين ذلك المكان ثم انطلقنا. أخذ الطريق حوالي الساعتين حتى وصلنا إلى تلك المزرعة الواسعة مقر إحدى الطرق الصوفية التي يتبعها بعض من أهلي. وهناك سكنا إلى البيت الخاص لأحد أقاربي لبقية اليوم لحضور مراسم مولد صاحب الطريقة (أو هذا ما علمت و سمعت من الناس الجالسين حولي في الباص) والتي ستبدأ بعد صلاة المغرب. فقضيت يومي هنالك و لاحظت بعض النقاط السلبية والبعض الإيجابية.
     كنت قد ذهبت إلى هذا المكان عدة مرات من قبل ولكنها كانت المرة الأولى التي أشهد ذلك الزحام. تلك الجموع من الناس من شتى المحافظات و من سائر المستويات الاجتماعية و حتى من بعض الأجناس و الجنسيات غير المصرية. ولكن هذه هي طبيعة الموالد فلم أكن مندهشاً. كانت صلاة الجمعة مختلفة، أو هكذا بدت لي دائما في المرات القليلة التي حضرتها هناك. فغالباً ما تتناول الخطبة الصوفية وكيف أن تلك الطريقة أرشدت الناس إلى الطريق الصحيح لعبادة الله و مدى سوء بعض التيارات الدينية والطرق الأخرى المتشددة و مدى علم و أخلاق و سماحة و بركة صاحب الطريقة، أو وليها كما يسمونه أيضا، و الدعاء له والتبشر به والتوسل به، و ليس إليه (على الرغم من أن البعض يتوسل إليه ويتمسحون به فعلا!)، كي يقودهم ويدلهم على الطريق الصحيح للقرآن والسنة، فهو "فخر الدين والدنيا" و القرآن والسنة هما "درعه وسيفه" كصاحب دعوة وطريقة.
     وتمر تلك الخطبة كما تمر دائما، وألاحظ وجوه الناس من حولي وأجدهم كما أجدهم دائما، يودون انتهاء الخطبة و أداء الصلاة سريعاً حتى يستمعوا إلى "درس سيدنا الشيخ" الذي يعقب الصلاة مباشرة. وهو ما حدث. فتمر الصلاة على نمط أسرع قليلا من أي نمط صليت به الجمعة قبلا، ثم يتوجه الجميع إلى الاتجاه المعاكس ليجدوا ذلك الشيخ جالساً على مقصورته وهم جميعاً في حالة من التأهب لسماع ما سيقوله الشيخ وما سيعلمهم وحتى البعض يدون ما يقوله الشيخ كمحاضرات الجامعة (مع الفرق طبعاً).
    ويتحدث الشيخ، مرتديا بدلته الأنيقة ومتحدثا بالعامية البسيطة، وهما شيئان يتباهى بهما الشيخ ومريدينه أو مريدين الطريقة كاختلاف عن الصورة النمطية للشيوخ أو الصوفية. ثم يلقي بعض الدعابات للتقرب أكثر من المستمعين ويبدأ الحديث في موضوع ما. يكون الحديث في بعض نقاطه مفيدا حقا، ولكن بما أنه مولد صاحب الطريقة ووليها الأصلي الذي توفي من فترة ما (وذلك طبعاً قبل تغيير اسم الطريقة أو انشقاقها كطريقة جديدة لتصبح على اسم شيخها الجديد) فكان الدرس عنه في بعض الوقت ثم عن من يتحدثون عن حرمانية الموالد وفهمهم الخاطيء للدين ثم التهكم على بعض شيوخ الأزهر وضعفهم وفهمهم الخاطيء بالدين ثم الرجوع لصاحب المولد و في النهاية تلقي بعض الأسئلة، إن وجدت، و الاستجابة لطلبات البعض للدعاء لهم ولأولادهم وبناتهم والتي ترسل إليه في ورق عن طريق بعض المنظمين والمساعدين. ولكني استفدت من بعض النقاط على الرغم من كون أغلبها لا علاقة لها بموضوع الخطبة الأصلي. ثم ينتهي الدرس بعد هالات من التصفيق الحماسي الحاد على روعة ما يقوله الشيخ و موجات من الضحكات العالية رداً على قفشات الشيخ. ثم يتسارع عدد كبير ناحية الشيخ للسلام عليه وتقبيل يده والتبرك ببركة "أحد أولياء الله الصالحين" و لكن تلك المرة، تقريبا لكثرة العدد، اكتفي الشيخ بالإشارة عن بعد و السلام و الناس جميعهم تقريبا رافعي أيديهم عاليا للسلام عليه وذلك مقرونا بابتسامة غالبا معناها الفوز ببركة السلام على الشيخ.
     ثم كانت العودة للبيت، بعد تخبط وعناء من كثرة الزحام أولاً عند الخروج من المسجد ثم ثانياً لصعوبة إيجاد حذاءك الذي عند وجوده كان في حالة يرثى لها لكثرة الأقدام التي دهسته ثم أخيراً لمحاولة جلب شيء من ذلك السوبرماركت و كثرة الناس المنتظرين خارجه و طول الطوابير الواقفه داخله (ولكننا نعيش في زحام وعشوائية وفوضى منذ فترة طويلة فلم التذمر؟!). و في النهاية حمدا لله عدنا لتناول الغداء وللراحة قليلا قبل موعد صلاة المغرب المنتظرة للاحتفال بعدها بالمولد.
     أذن المغرب. فذهبت إلى تلك الساحة الكبيرة بأضوائها المعدة للاحتفال وعدد كبير من الشباب كمنظمين للمرور وللحفل. وبعد صلاة المغرب مباشرة كان الاحتفال. الشيخ كالعادة جالسا على تلك المقصورة وشاشات العرض معدة لمن يجلس بعيدا عنها و بجانبه مقصورة صغيرة معدة لبعض الضيوف لإلقاء بعض الكلمات. بدأ الشيخ كعادته ببعض القفشات والناس كعادتهم في حالة من الحماسة الزائدة من ضحكات عالية وتصفيق حار. شعرت كسائح في بلد غريب لعدم وجود تلك الحماسة داخلي على عكس الغالبية العظمى من المتواجدين. كنت فقط أتابع ما يحدث باهتمام كشيء لا أراه دائماً. ثم أنهى الشيخ كلمته القصيرة ومرر الكلمة لابنه، والذي يبدو أنه يعده ليقود الطريقة من بعده ويعد مريدي الطريقة على قبول ذلك فهو في الأول أو الآخر "من نسله الشريف". تناول ابنه تعريف الطريقة ومنهجها وسموها عن الطرق الأخرى، ولكن في كلمات مملة أشعرتني أني أقف أمام مندوب مبيعات يريد اقناعي بشراء سلعة ما ولي طبعا في النهاية حرية الاختيار (مع الاختلاف الكبير بالتأكيد). بعد ذلك تناول بعض من سيرة صاحب المولد ولكني أيضا لم أشعر بانجذاب لما يقوله. فعلى الرغم من نظرات والده الجالس وحيدا على المقصورة الكبيرة من فخر بابنه واقتناع بما يقوله، يبدو أنه ليست لديه بعد الكاريزما التي يتمتع بها والده. أنهى الابن كلمته فكان دور مسؤول الطريقة في بلاد الخليج ثم مسؤولها في بلاد الهند. كلها كلمات مدح كثيرة في الطريقة و نموها وانتشارها و تمدح كثير بالشيخ الجالس صاحب البركات ثم مديح بصاحب المولد في كلمة أو اثنتين. وبالطبع قبل إلقاء الكل لكلمته و بعدها كان يذهب للسلام بحرارة على الشيخ وتقبيل "يديه الشريفتين". وبالطبع لم يشعر أحد أن وقت صلاة العشاء قد أتى ومر دون حتى أن يرفع الأذان، بل ظلت الكلمات تتوالى.
     و بعد تلك الكلمات التي وجدتها مضجرة لدرجة الرغبة في النوم، أتى وقت "الحضرة" و هو ما يعني قيامي من وسط الحشود و الاكتفاء بالوقوف بالخارج والمشاهدة لعدم اعتيادي على أداء مراسم حضرة صوفية من قبل. وبالطبع لم أسلم من بعض تلك النظرات التي عادة ما يلقيها البعض على السياح لاختلافهم الواضح عن ما حولهم في الشكل أو التصرفات. ظننت في نفسي أن أرد على تلك العيون أني مسلم أيضا و أني الحمد لله أحافظ على فروضي وأحاول أن اجتهد لأكون شخصا أفضل ديناً و أخلاقاً و لكني  اكتفيت بتجاهل تلك العيون. ثم بدأت الحضرة بشخص ينشد بعض الأناشيد الخاصة بالطريقة وشيخ الطريقة والنبي محمد (صلوات الله عليه وسلامه تسليما) والناس تردد "الله" و تفعل بعض الحركات بأجسادهم وأيديهم (حركات لا أفهم سببها أو مصدرها ولكنها يبدو أنها سمة من سمات مريدي التصوف) فالحضرة في حد ذاتها عند الطرق الصوفية هي طريقة من طرق ذكر الله. و عموما في النهاية كل يذكر ربه ويصلي على نبيه بطريقته (المهم إنه يذكرهم).
     وكانت الحضرة هي الحدث الختامي لذلك المولد والاحتفال الصوفي والذي تم بعده توزيع "النفحة" على الموجودين (وهي تكون عادة أرز و لحم أو أرز باللبن) لتناولها والتحلي ببركتها قبل الاستعداد للرحيل و العودة كل لبيته.
     كانت تجربة مختلفة و كان يوما غير تقليدي. عالم مختلف و اجتهادات في الدين قد تكون صحيحة و قد تكون خاطئة (الله أعلى و أعلم). أن يكون لك شيخ تثق به و برأيه و ترى أنه عنده من العلم ما يكفي لإرشادك إلى الطريق الصحيح هذا شيئ جيد جدا، ولكن هذا لا يعني أن تلغي عقلك و قلبك و تنساق وراءه بكل جوارحك بمبدأ "الطاعة العمياء" والتي كان من الغريب أن أجد ابن شيخ الطريقة في كلمته يدعو لها. في النهاية ذلك الشيخ بشر كسائر البشر يخطيء ويصيب وفوق كل ذي علم عليم. هو ليس نبي أو رسول، وحتى كونه "ولي من أولياء الله" فهذا شيء الله أعلم به و ليس أنت. أن تشعر بالراحة في مكان ما أو بفعل عمل معين هذا شيء يرنو إليه الجميع، ولكن هذا ليس معناه أن من لا يفعل ما تفعل فهو خاسر أو مضلل. أن تجد من يعلمك في مجالات الدين و الدنيا بشكل مبسط و تلقائي ذلك أمر يحسد الناس عليه، ولكن يجب أن تبحث أنت أيضاً في صحة ما يقال لك و أن تعمل عقلك و قلبك و أن تكون لك مصادر أخرى صحيحة ولا غبار عليها تتلقى منها العلم و المشورة. و نهايةً، الله سميع مجيب، فعلاقتك به لا تحتاج وسيط يوصلك إليه. أعمل عقلك و جاهد نفسك وتعلم من غيرك و تفكر في الخلق حولك و استفتي قلبك و إياك أن تنسى قدرة الله عليك و على غيرك و تحصن بالمعرفة الصحيحة و بمكارم الأخلاق و بعظمة القرآن الكريم و السنة الطاهرة تجد الإيمان والرضا والجنة (بمشيئة الله).

No comments :

Post a Comment